حوار مع د.لطيفة محمد سالم -أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة بنها عن تاريخ الاستثمار في مصر
حصلت د.سالم على بكالوريوس التاريخ من جامعة القاهرة ثم عملت كأستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب جامعة بنها. الجدير بالذكر أن د.سالم حاصلة على جائزة الدولة التقديرية وجائزة الدولة التشجيعية من المجلس الأعلى للثقافة كما أن لها العديد من المؤلفات التاريخية والكثير من المراجعات للعديد من المسلسلات التاريخية.
(بكرة أحلى) فمن درس التاريخ يجد انتكاسات في تاريخ مصر ولكن مصر ازدهرت بعدها...
عندما سألناها من هي د. لطيفة سالم، ابتسمت وبدأت حديثها قائلة "لطيفة سالم باحثة وستظل باحثة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، أعمل بالكتابة التاريخية ولست مؤرخة كما يزعم البعض، أحاول أن التزم بمنهج البحث التاريخي حتى يصل التاريخ لعقول وقلوب الجميع."
في خضم حديثها عن تاريخ الاستثمار في الدولة المصرية، أردفت د.سالم "يجب أن نقسّم الاستثمار إلى استثمار دولة واستثمار أفراد... بدأ استثمار الدولة في عهد محمد علي (1805-1848). لاشك أن مصر كانت في عهد محمد علي دولة ذات إقتصاد قوي ؛ والدليل على ذلك أن التوسعات التي قام بها محمد علي في الشام وفي مناطق كثيرة كانت تُموّل من ميزانية الدولة."
ترى د.لطيفة أن نقطة التحول من استثمار دولة إلى استثمار أفراد جاءت في عهد الخديوي سعيد.
في عهد سعيد، بدأ ما يُعرف بالإمتيازات الأجنبية. وتحكمت الاستثمارات الأجنبية بشكل كبير في الإقتصاد حيث رحب الخديوي بالأجانب وعفاهم من الضرائب والجمارك. علي سبيل المثال، لقد طالعت سجلات بورصة القطن في الاسكندرية فوجدت كل المتعاملين في البورصة غير مصريين. هدفت تلك الإستثمارات في المقام الأول إلى دعم الجاليات الأجنبية في مصر. لكن سرعان ما انسابت عدوى استثمار الأفراد إلى المصريين عن طريق الأجانب المتمصرين الذين استقروا في مصر وباشروا مشاريعهم.
"عهد الخديوي إسماعيل هو بداية الحراك الإجتماعي نحو الاستثمار"
استطردت د.سالم حديثها بهذه العبارة وأضافت "لقد بدأت العقلية المصرية تتغير فتحولت مصر من الزراعة إلى الصناعة حتى أن الخديوي إسماعيل نفسه كان يمتلك أكبر مصانع قصب السكر وقتها. وقد أصبحت السوق المصرية تتبنى ما يسمى بـ"الباب المفتوح" أو (open door policy) وهي سياسية الترحيب بالاستثمارات الأجنبية. هاجر الإقطاعيون من الريف إلى الحضر بسبب العقلية الحديثة للإقطاعيين الشباب الذين تلقوا تعليمهم في أوروبا. تغلغلت الرأسمالية الفردية في نفوس المصريين وفكّروا في إنشاء البنوك ، كانت البنوك على شكل "صرّافين" ثم تطورت حتى وصلت لشكلها الحالي. هذا التطور كُلل بالثورة العرابية التي كان من أهدافها وضع برنامجا للاستثمار في مصر. لكن مرة أخرى، كانت كلمة الأجانب هي العليا حيث احتكروا البنوك وبذلك تحكموا بالإقتصاد المصري عقب الثورة في الفترة بين 1882 حتى 1914. في نفس الوقت، بدأت الحالة الإقتصادية لمصر تتدهور وأخذ سيل من الرهن العقاري يسحب المصانع والأراضي من أيدي المصريين حتى انتهى هذا السيل بالحجز على قناة السويس. وبعدها رجع المصريون للعمل في الزراعة بشكل أساسي.
عندما سألناها "كيف خرج الاقتصاد من كبوة التحكم الأجنبي بعد ثورة عرابي؟"قالت "لابد ألا ننسى شيئا قد أدّى إلى تحول المصريين إلى الزراعة وهو القلق من أن الأرباح حلال في الشريعة الإسلامية. نلحظ شيئا آخر أن النهضة الإقتصادية تتبع دوما النهضة الوطنية والسياسية. فحينما دأب سعد زغلول ومصطفى كامل وقاسم أمين على النهضة الوطنية والسياسية ، شرع طلعت حرب في النهضة الإقتصادية. فالفرد حينما يريد التحرر من السلطة يريد أيضا أمواله كي يتصرف بها كما يحلو له. الحرب العالمية كان لها دافعا كبيرا في نفوس المصريين للاعتماد على النفس بعدما عانى الشعب من الغلاء والبطالة والكساد الإقتصادي. في عام 1906، تم إنشاء ما يُسمى بلجنة التجارة والصناعة لدعم الاستثمار الداخلي ووضع آلية حقيقية للاستثمار. كان من المشجعين على هذه اللجنة طلعت حرب.
استوقفنا اسم طلعت حرب ، فسألناها عن دوره في تنشيط الإقتصاد المصري. أجابت "طلعت حرب كان يعمل مشرفا عاما على ممتلكات هدى شعراوي التي كانت سيدة أرستقراطية في الأساس. لا نستطيع أن ننكر دور هدى شعراوي بجانب حرب في دعم الإقتصاد حيث أسست أكبر مصانع للفخار في مصر وشجعت الصناعات النسائية الصغيرة. بعد إنشاء اللجنة، عمد المؤسسون ومن بينهم حرب على إعلاء فكرة "صنع في مصر" لكن أي مشروع يحتاج لتمويل في البداية، ففكروا في إنشاء بنك. دشنت اللجنة حملة وطنية للتبرعات لتأسيس أول بنك مصري. هذه الحملة أظهرت التلاحم الكبير لطوائف الشعب من غني وفقير ومن مسلم مسيحي ويهودي ومن فلاح وأرستقراطي. الجميل أنني اطلعت على بعض إيصالات التبرع ووجدت منها بآلاف الجنيهات ومنها بخمسة قروش. لكم أن تتخيلوا أن الحملة بدأت في 1919 وتم تأسيس البنك في 1920! في عام واحد، نجحت الحملة في جمع المال اللازم لإنشاء البنك. أنشئ البنك ما يقرب من 20 شركة مصرية خالصة منها مصر للطيران والغزل والنسيج. استرجعني عبرة جميلة لطلعت حرب ، حرب كان معارضا لتحرر المرأة لكن هذا لم يمنعه من تأسيس ستوديو الأهرام لدعم الفن المصري. نرى بهذا التصرف كيف كان حرب يعلي المصلحة العامة على المعتقدات الشخصية.
سألناها عن الفرق بين استثمار اليوم واستثمار الأمس فأجابت "بالأمس، كان الاستثمار بشكل كبير يُكرّس لخدمة الاقتصاد الوطني (مع وجود بعض المصالح الشخصية بالقطع) ، أو فكرة الـ (win-win) أو الجميع فائز فالمستثمر يربح والاقتصاد ينهض والمستهلك يأخذ منتجا. كان بالامس الكثير من الأمثلة الرائعة مثل زجاجيات سيد ياسين الذي بدأ صغيرا حتى اكتسح سوق الصناعات الزجاجية ، طلعت حرب الذي اضطرته الضغوطات والضغائن فآثر الاستقالة حفاظا على كيان بنك مصر ، عمر لطفي الذي أسس شركات التعاون لتساعد المشاريع الصغيرة وتقدم لها الدعم المادي والتقني، الصحف الاقتصادية الكثيرة التي تقدم الإحصائيات الصادقة و الإعلانات عن المشاريع والأسهم والسندات... استحضرني مقال جميل في جريدة المقطم يتضمن نصيحة للمرأة المصرية بشراء أسهم بدلا من الحلي لأن الأسهم تفيد اقتصاد البلاد. إذا قارنا بين مصر وبعض الدول مثل ألمانيا واليابان، سنجد أن ألمانيا كانت مقسّمة ومهدّمة بعد الحرب العالمية وانظروا إلى حالها اليوم. بالنسبة لليابان، لقد كنّا على خطى واحدة بجانب اليابان حيث بدأ الإصلاح في عهد مايجي ومحمد علي. فكانت الوفود اليابانية تأتي لمصر للاستفادة من الخبرات المصرية. وهنا نقف لنسأل أنفسنا: لماذا لا نكون كلنا طلعت حرب وسيد ياسين وهدى شعراوي؟ لماذا إذا ربح المصري المال اتجه للاستثمار خارج مصر بدافع أن البلاد غير مضمونة؟ هل يجب أن يكون هناك استعمار ليحدث نهضة اقتصادية بجانب الحركة الوطنية؟
اختتمنا المقابلة بسؤالين عن المقولة المفضلة والكتب المفضلة ، فأجابت د.سالم "أقول دائما (بكرة أحلى) فمن درس التاريخ يجد انتكاسات في تاريخ مصر ولكن مصر ازدهرت بعدها... أما بالنسبة للكتب بعيدا عن التاريخ فإنني أعشق نجيب محفوظ والسير الذاتية. محفوظ أجد به التاريخ في شكل رواية قصصية والسير الذاتية احبها لأنها تقدم نموذجا حيا للإرادة وتحدي العقبات التي تواجه الإنسان. وقد تشرفت بكتابة مقدمة السيرة الذاتية لنبيل العربي بعد أن عشت معه في رحلته في الأمم المتحدة والبلاد المختلفة التي عمل بها.
No comments:
Post a Comment